بين النخل و البوقة والقاري والبكلة- حرفت الألفاظ فتغيرت المعاني


يقول الدكتور محسن بن سليمان العطيات العطوي أن كثيرا من الأشعار الجميلة والتي أصبحت من التراث (الفلكور) نالها شيء من التحريف الأمر الذي أدى  خلل في معنى وسياق المقصود من بيوت هذه  الأشعار. ويعتقد العطيات أن التحريف (التشويه) المتعمد سبببه غرابة الألفاظ في الأشعار الأساسية حيث استبدلت الكلمات الغريبة والتي قد لا يعرف كنهها إلا المحيط التي قيلت فيف بكلمات معروفة للعموم .

فمثلا موشح الملا عثمان الموصلي وهو على بناء (الأبوذية) ناله التحريف بعض الفاظه  فأختل المعنى تماما :
(فوق النخل) فوق يابه    فوق (النخل) فوق
مدري لمع خده يابه      مدري القمر فوق
والله مااريده باليني بلوه

والتحريف ورد في (فوق النخل)  والصواب (فوق إلنا خل) أي هناك في العالي (إلنا) بمعنى لنا  ، و (خِلّ)  بمعنى محبوب وكأن الشاعر يشير الى نافذة أو شرفة عاليه  تطل منها محبوبته وأن لمعان خدودها يشبه لمعان القمر وهو يخشى أطالة النظر لأن في ذلك (بلوه) أي أبتلاء  ، قلت وهل هناك أعظم من بلوى الحب ؟
فوق إلنا خِلّ ،   يابه    فوق  إلنا خِلّ  فوق
مدري لمع خده يابه     مــدري القمر فوق
والله ما اريده باليني بلوه


و نال التحريف إيضا (أبوذيه) جميلة له أصبحت هي ايضا من التراث و تردد في العراق وبلاد الشام حيث قال الموصلي وعلى لسان فتاة عراقية موصلية ،  والكلمات المحرفة بين قوسين
دزني وأعرف (مقامي)
دزني وافهم مرامي
(صادوني صيد الحمامي) 
لو يشوفونك عمامي
يذبحونك وانا اش عليه


والابوذية الأصلية هي :
 دزّني واعرف مكاني
بوقني بوق الحرامي
لو يشوفونك عمامي
يذبحونك وانا اش عليه


 وكلمة (دز) هي من بقايا اللغة الآشورية كما يقول العطيات وهي كلمة منتشرة في العراق وبلاد الشام وتعني (البعث والأرسال) يقولون (دز له مكتوب) أي بعث له برسالة ، (بوقني)  أي أسرقني من البوق وهي السرقة من مأمن ومن مكان معروف سلفا يقولون في العراق (باقني بوقة خويه) بمعنى سرقني كما يسرق الصاحب صاحبه الذي أستامنه  فالبواق هنا على علم ودراية تامة بمكان المسروق.
 
أذا هذه الفتاة الموصلية  تأمر حبيبها أن يأتي إلى (مكانها) في خفية من الأمر ومتسللا كما يفعل الحرامي (البواق )  ليسرقها وعليه أن يحذر من سطوة اعمامها وذكر شاعرنا الموصلي هنا (الأعمام) لأن كل واحد من الأعمام أنما يريد فتيات أخوانه لأحد من أبنائه وعليه فهو يبعد عنهن كل غريب فمن العادات القديمة الشائعة في الموصل حيث جذور شاعرنا أن الفتاة هي بالمطلق لابن عمّها (البنت لولد عمها يحوّلها من على ظهر الفرس) أي أن له حق الأعتراض الكامل على زواج أبنة عمة من الغير بدون رضاه وموافقته حتى ولو كانت أبنة عمه على (فرس الزواج)
* وطال التحريف إيضا قصيدة ابراهيم البلوي رحمه الله والذي توفي وهو في ريعان شبابه وهو من منطقة الوجه (تتبع أداريا منطقة تبوك)  في قصيدة جميلة أصبحت من أشعار رقصة (الرفيحي) المشهورة
كلمات القصيدة المحرفة هي التي بين الأقواس
(السيل) يا سدرة الغرمول يسقيك .... من مزنةٍ هلّت الما عقربيِّه
يا (كثر) ما جيت ساري في حراويك ..عجلٍ واخاف القمر يظهر عليِّه
نطيت انا الداب وانيابه مشاويك .... والله وقاني من اسباب المنيِّه
يا رجل لو هو مصيبك وين (أداويك) ..(أدواكِ) يمّ الحسا صعبٍ عليِّه

  أما القصيدة الأصلية فهي :
الله يا سدرة الغرمول يزيك .... من مزنةٍ هلّت الما عقربيِّه
يا طول ما جيت ساري في حراويك ..عجلٍ واخاف القمر يظهر عليِّه
نطيت انا الداب وانيابه مشاويك .... والله وقاني من اسباب المنيِّه
يا رجل لو هو مصيبك وين أقاريك .. قاريك يمّ الحسا صعبٍ عليِّه


حيث بدأ شاعرنا بدعاء (الله) عز وجل - وليس (السيل) كما ورد في القصيدة المحرفة- بأن( يزي) أي يكفي بالتركية  شجرة السدرة والتي كانت بقرب جبل أسود مشهور وهو  (جبل الغرمول)  من مطر يسقط في نوء العقارب ، ويقول الشاعر رحمه الله أن كان يتردد على هذه النواحي وكان يمر بها مستعجلا وذكر أنه في أحد المرات قفز من فوق ثعبان ضخم (داب) وأن رحمة الله أنقذته من لدغته القاتلة ثم يخاطب الشاعر قدمه فيقول لو أن لدغة الثعبان (الداب) أصابتكِ عندها علي أن أبحث عن قاري وهو (الحاوي) الذي يقوم على معالجة الملدوغ بأن يجعل فمه على مكان اللدغ ثم يجذب ماتيسر له ثم (يقرأ) ويردد كلمات أعتاد الحواة قولها في مثل هذه الحال وقال أن مكان هذا القاريء (الحاوي) بعيد والوصول اليه فيه مشقة عظيمة فهو في منطقة الحسا وهي ناحية معروفة أشتهرت بحواتها وممارسي الطب الشعبي  أصبحت الحسا جزءا من المملكة الأردنية الهاشمية وأسمها الحالي لواء الحسا


 


*ولم تسلم قصيدة شاعر الأمارات الكبيرعتيق الظاهري من التحريف وهي القصدة والتي أصبحت من التراث الخليجي :
غزيلٍ (فله) .. بدبي لاقاني
امشط (القذله) .. سلمت وحياني
قال اشبلاك مدله .. قلت ضاع برهاني
اسبابه الكحله .. تسحر بالأعياني

وورد التحريف في لفظ (فله) فالشاعر يريد ان ان يصور الفتاة وكانها  (غزال الفلاة)  والفلاة هي الصحراء المترامية الأطراف . وورد التحريف إيضا باستبدال  لفظة (البكلة) بلفظة (القذلة) و البِكلة (وهي جامعة للشعر مصنوعة من الحديد ودقيقة في حجمها  تجمع الشعر بعد  تسريحه وتمنعه من التفرق) وكانت (البكلة) تجلب من بلاد الهند وكانت صنفا واحدا ولونها أسود يتماشى مع لون شعر الهنديات الأسود وكان للبكلة رواج كبير في ذلك الوقت بين فتيات الأمارات وفي الخليج  فهي تحفظ الشعر وتبقي مرتبا وهو دليل على أهتمام القتاة بشعرها
القصيدة الأصلية : 
غزيلٍ الفلة .. بدبي لاقاني ..
أمشط بكلة .. سلمت وحياني
قال اشبلاك مدله .. قلت ضاع برهاني
اسبابه الكحلة .. تسحر بالأعياني





تصبحون على خير



دوشرمك

ذكر مؤرخون أتراك كبار لهم باع طويل وأقدام راسخة في تقصي التاريخ العثماني والذي أمتد حوالي 6 قرون وأجمعوا بما فيهم أستاذة وأكاديميون كبار من أمثال الاستاذ الدكتورقوندوز أحمد أغلو  والاستاذ الدكتور اورخان علي والأستاذ الدكتور سعيد اوزتورك  على أن نشأة نظام (دوشرمة) العثماني أنما كان الباعث له هو رفد الجيش العثماني بالجنود والمقاتلين وبشكل مستمر.

وقبل الأستطراد في الاستدراك (التصحيح) أود أن أقول أن كلمة (دوشرمه) هي كلمة عثمانية قديمة وتعني حرفيا (التجميع) ولكن تجميع من ولأي غاية؟
يقول الدكتور محسن بن سليمان العطيات العطوي  لقد أراد سلاطين الدواة العثمانية (نسبة إلى عثمان بن أرطغرل)  أيجاد فرقا (جمع فرقة) يهيمن أفرادها على جميع مفاصل الحياة في الدولة ويدين أفرادها بالولاء المطلق والأعمى للسلطان.
ولكن كيف يتم ذلك ؟
يتم ذلك عن طريق جلب أطفال (نصارى) أعمارهم مابين 8-12 سنوات ومن ثم (أسلمتهم) وأخضاعهم لتلقين منهجي في (أندرون سلطاني) (اندرون كلمة أيطالية تعني داخلي) أي المدرسة الداخلية السلطانية حيث ينتقل الطفل النصراني في 4 مراحل مقننة وموزعة على حوالي 8-10 سنوات  فأول المراحل هي مرحلة (كوجك اوطا)  أي (الغرفة الصغيرة) حيث يتعلم الطفل النصراني الجديد مباديء الدين الأسلامي ثم إلى مرحلة (خزينة اوطا) وصولا إلى مرحلة (خاص اوطا) حيث يوزع في هذه (الغرفة الخاصة) الدوشرمة لتهيئتهم للقادم من مهام (سيأتي ذكرها).
يقول العطيات أن الغالبية العظمى من تشكيلة الـ(دوشرمه) هم من أطفال نصارى  وخصوصا من (صربيا) وقليل منهم من نصارى  (بوسنه)  ويجب في الطفل النصراني الذي تم أختياره أن يكون طفلا صحيحا خاليا من العيوب الجسمية الظاهرة وكل طفل نصراني ينتزع من عائلته  يدون أسمه بالكامل والمنطقة التي جلب منها وبحسب التوجهيات السلطانية لا يجوز أخذ أكثر من طفل واحد من العائلة الواحدة (هذا الشرط نقض لاحقا وتسبب في ظلم كبير ومآسي للكثير من العائلات النصرانية كما يقول العطيات) 
بعد أتمام جميع مراحل مدرسة الأندرون  يتقلد المتخرج رتبة عسكرية على نحو (ركابدار) وهو من يرافق السلطان ويخدمه في رحلات البر والبحر أو (جوخدار) وهو المسؤول عن لباس السلطان والسير خلفه ويحمل ما يقي السلطان من أشعة الشمس او الظروف الجوية كمطر او نحوه ومن وظائفه نثر النقود في موكب السلطان  أذا أمره السلطان بذلك أو (سلاحدار)  وهو من يسير بجواده أمام السلطان وخلفه ويحمل السلاح  وهو الذي يبعد عنه العامة ويفسح للموكب السلطان المرور أو أن يكون (جاشنكير باشي) وهو من يقوم على تهيئة  مائدة السلطان وتوزيع الطعام للصدور العظام والوزراء الكبراء في حضرة السلطان حينما يقيم السلطان مآدب الطعام وهو الملكف إيضا بجمع العرائض بعد صلاة الجمعة.
 لعب الدوشرمة دورا كبيرا في حماية سلاطين الدولة العثمانية بل ويذكر لنا التاريخ واحدا من أبرز الدوشرمه الا وهو (محمد صقللو باشا) وكان قد أنتزع من أسرته الصربية وهو في سن الثانية عشرة  وجلب لمدرسة الأندرون ومنح الأسم (محمد) وتخرج منها  وعين (سلاحدار) في الديوان السلطاني وتدرج حتى عين وزيرا للحرب  وذلك عام 1560 ميلادي بل وتزوج لاحقا من (اسمخان) أبنة السلطان سليم الثاني ومن شدة ولاءه للسلطام  سليمان القانوني أنه تمكن من أخفاء حقيقة  موت السلطان لحوالي 40 يوما ويقول العطيات أن هناك قرائن تشير الى كراهية السلطان مراد الثالث وربما تورطه في تسهيل مهمة في قتل محمد صقللو باشا  بطعنة غادرة من شخص قيل أنه مجنون  فمات صقللو متاثرا بجراحه.
لاشك أن جلب أطفال نصارى صغار وأقتلاعهم من بيئتهم وأدخالهم في نظام دراسي داخلي صارم (أندرون سلطاني) ولعدة سنوات ربما وصلت الى 10 سنوات وبعيدا عن التاثيرات الخارجية المحتملة (المعارضة) يشبه عملية غسل أدمغة لتحقيق هدف واحد نهائي وهو الطاعة العمياء لسلاطين الدولة العثمانية وهذا الذي تحقق بالفعل كما بينت شواهد السنين والأيام.

فائدة لغوية:
في مصر يقولون (أوظه أو أوطه) بمعنى غرفة والكلمة عثمانية قديمة